إلى البطريرك
إلى البطريرك... قبل الصوم
صاحب الغبطة، يبدو توقيت هذا الكلام المرفوع إليك، صائباً. وإن لم يكن كذلك، فالأمل أن يعوِّضه صواب المضمون. توقيتٌ ضروري، عشية أحد المرفع، وبدء صوم طويل، ربما حتى عن الكلام، فضلاً عن قطع الزفر. وعشية اثنين الرماد، هذا الصباح المبارك الذي يقف كل منا فيه أمام مذبحه، ليُذكَّر بأنه من التراب، وإلى التراب يعود، أكان عظيماً أم حقيراً، كما اعتاد أن يوقِّع أسلافك العظام، بتواضع تملأه رفعة النفس والروح...ومع هذا الزمن الكنسي، نتذكر أن كلنا يخطئ.
وإذا كنا جميعاً معرضين للخطأ، فكيف بتغيير الرأي، أو تطويره، أو تصحيحه. ولا شك أنك الأقل عرضة لذلك من بيننا، ومن بين سياسيينا. لكونك لا تعمل في السياسة أصلاً.
ومع ذلك، فأنت مثلاً، الأسقف نفسه الذي التقى الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، في حزيران عام 1975. صحيح أن المناسبة كانت مجرد زيارة بروتوكولية، لشكره على تعزيته بسلفك الكبير البطريرك المعوشي. لكنك سمعت منه كلاماً مهماً عن رسوخ المسيحيين في الشرق. وعن خطأ استدارتهم نحو الغرب. وعن الأثمان التي دفعوها تاريخياً جراء ذلك. ويبدو أنك وافقته الرأي، ولو صمتأً. ما جعلك تؤكد له أنك لا تنسى المنطلقات السورية للموارنة، وأن الراهب مارون نفسه عاش في ضواحي حلب، ومات هناك. أي ربما في براد. براد نفسها التي لم تتعرف إليها لاحقاً، وربما لم تُرد أن تعترف بها... وأنت نفسك من كتب في آذار عام 1987، يوم عادت القوات السورية إلى بيروت، «متمنياً لها أن توفق في مهمتها الأساسية التي جاءت من أجلها، ألا وهي منع التقسيم»... وأنت نفسك من كتب في البيان الشهري لمجلس الأساقفة الموارنة، في آذار عام 2003، مثمِّناً للرئيس السوري بشار الأسد، «حكمته وبعد نظره».
يومها، هل تذكر؟ أخذنا وليد جنبلاط جميعنا خلفك، إلى سيدة حريصا، لنصلي الوردية من أجل السلام. فيما كان المغزى السياسي الفعلي الوحيد للصلاة، ما حدّده جنبلاط نفسه، من صلاة دفاعاً عن صدام حسين، وتمنياً بالموت لوولفوفيتز ورايس...
ويومها، وأذن لنا بالكلام، اكتشفت شخصية نيابية، من أكثر أدعياء القرب منك يومها واليوم، أنَّ الوردية تكرار لصلاة السلام 150 مرة، فعلقت: لذلك تصير أذهانهم معطلة...
لكن كل ذلك عابر في تاريخك، زائل. ليظل رصيدك الأول، أنك طيلة عهود الوصاية، كنت حارس الهيكل. لم تساوم. فاستحققت أن تكون مع المقاومين. وأنت تعرف من هم المقاومون. وتعرف أن ليس بينهم من جاء يسألك بجد: هل تريد إطلاق سراح سمير جعجع، أم سجن الآخرين، ليستتب وضع تلك العهود، ويتأبد...
واستعيدت السيادة. بفضل تقاطع دولي كبير. كانت مساهمة الداخل فيه، أن ثمة أناساً كانوا يطالبون طيلة عقد ونصف عقد. وأنهم أقنعوا الخارج، بأن جهوزية اللبنانيين للسيادة، كاملة، أو على الأقل كافية.
وكان علينا بعدها، أن نحصّن اللحظة الخارجية. فنثبت أولاً أننا قادرون على ضمان حرية للفرد المواطن الإنسان، تشبه تلك التي يعتنقها الغرب، فيقتنع بأن استثماره عندنا ممكن ومجدٍ. وأن نثبت ثانياً أننا قادرون على مصالحة شركاء الوطن، ضمن توافق وتوازن متلازمين. فيقتنع الخارج بأن كياننا الذاتي الاستقلال، قابل للحياة. وبأن نثبت ثالثاً أننا قادرون على نسج علاقات سلام واحترام مع المحيط. فلا نتحول مجدداً فراغاً يستدرج الخارج، ولا ضغطاً يفيض في اتجاهه. وأنت تعلم يا صاحب الغبطة، أن هذه الأهداف الضرورية الثلاثة، كان ثمة من أطاحها بعد 14 آذار 2005 بثمان وأربعين ساعة فقط. يوم بدأ دولته البوليسية الجديدة في الداخل، واستأثر بسلطة ما بعد الاستقلال على حسابك تحديداً، وفخّخ سيادتنا الطرية العود، بالإعداد لانقضاض على الخارج، باستقواء رفضته أنت طيلة الوصاية، ولخلفيات مذهبية بحتة.
وأنت تعلم يا صاحب الغبطة، أنه في المقابل، كان ثمة من سعى تدريجياً وتباعاً لتحقيق تلك الأهداف. فطوى صفحة حروب التدمير الذاتي. وانطلق لينسج أول «تفاهم» جديّ خطي مع الشريك. قبل أن ينفتح على المحيط، بطلة رفعت رأس كل مسيحي مشرقي، وذرفت من عينه دمعة اعتزاز ورد اعتبار.
فماذا فعلت حيال الاثنين يا صاحب الغبطة؟
(يتبع الثلثاء المقبل)
جان عزيز
ارسل تعليق
No comments found.